الجابري وصفحته الواحدة

المقاله تحت باب  منتخبات
في 
06/05/2010 06:00 AM
GMT



 في كتابه "نقد العقل العربي" بجزأيه الأولين "تكوين العقل العربي" و"بنية العقل العربي" ،يقدم الدكتور محمد عابد الجابري قراءة وافية لكيان العقل العربي وآلياته والأصول التي فرضت سلطتها عليه، وماإلى ذلك من عوامل وعلاقات تداخلت وتشابكت فيما بينها لتكوَن بنية العقل العربي الذي تعارفنا عليه. وفي هذا الإطار يدرس الجابري في  الجزء الاول من الدراسة  الشروط المعرفية والتاريخية لبناء العقل العربي، ثم ينتهي في الجزء الثاني إلى النظم المعرفية الثلاثة التي أسست الثقافة العربية الإسلامية، وأنتجت العقل العربي وهي: البيان والعرفان والبرهان.
 وكان ذلك العمل من الضخامة بمكان بحيث اعتبره الدارسون لتاريخ الفكر العربي أنه يمثل مع مشروع المفكر السوري جورج طرابيشي (نقد نقد العقل العربي)واحداً من أهم الموسوعات الفكرية التي تناولت التراث الفكري العربي الإسلامي في القرن العشرين. وقد كان هاجس الجابري في دراسته تلك هو قراءة الماضي لفهم عجز الحاضر عن الوصول إلى مشروع النهضة المستقبلي وقد فعل ذلك من خلال تفكيك (آلة انتاج) هذه النهضة وهي العقل العربي .إلا أن مايلفت النظر بقوة في مجمل تلك الدراسة المهمة التي يقدمها مفكر مهم كالجابري هو أن الجزأين، بصفحاتهما الأدنى قليلا من الألف، لايبقيان حجراً إلا ويقلباه في مجال البحث عن تشكيل العقل العربي وشروطه الأبستملوجية وعهود ازدهاره واستقراره وانحطاطه، ولكنهما لايخصصان سوى صفحة واحدة فقط أو مايعادلها (تقع بين الصفحتين المرقمتين 241-242) لدراسة وتأمل البيئة الجغرافية التي نشأ وترعرع فيها هذا العقل.
 نعم، الاشارة مفقودة لما يبدو ترابطاً أكيداً بين خشونة هذه البيئة ونشأة هذا العقل الذي كان خاضعا، قبل اختراع المكيفات وأجهزة الاضاءة وتسهيلات الهندسة المعمارية، الى طقس متطرف يتراوح من أقصى البرودة الى أقصى الحرارة ومن أسطع الضياء الى أحلك الظلام، حيث يمر ابن هذه البيئة في اليوم الواحد من نهار ساطع وحار جداً الى ليل بارد وحالك الظلمة، وفي العام الواحد يمر من صيف حار وجاف جداً الى شتاء رطب وقارس البرودة بحيث ينتقل الانسان من حال الى حال آخر بشكل يومي ثم موسمي ثم سنوي ليست سنواته بالمقابل تحسب بالحساب التقليدي الثابت بل استنادا الى ظهور القمر ثم انتصافه ثم اكتماله في السماء.
هذا الحساب العربي لشهور السنة ربما قد يكون قد ترك بصمته المميزة على العقل العربي وتحولاته، ضاربين مثلا حول ذلك بالأعياد والموالد الدينية التي لاترتبط في الذاكرة بموسم معين كما هو الحال مع بعض مناسبات الشعوب كميلاد السيد المسيح الذي يرتبط حلوله لدى أغلبية المسيحيين(في أوروبا)  بيوم واحد هو الخامس والعشرون من كانون الثاني وهو يوم شديد البرودة تتساقط فيه الثلوج بكثافة الأمر الذي جعله ثابتاً على هذه الصورة في الرسومات التي تتناقلها الكارتات البريدية وتحفظها الذاكرة الغربية عبر الأجيال بينما وفق الحساب القمري لأعيادنا الدينية فان موسم الحج أو شهر الصيام أو عيدي الأضحى والفطر المباركين قد تأتي تارة في الصيف وتارة في الشتاء وطوراً في أوقات أخرى من الفصلين الآخرين من السنة حيث تتقدم كل مناسبة أحد عشرا يوما في العام حسب تراتب الأشهر القمرية وتراكم تلك العشرات مع تقادم السنين.
وبالتأكيد فان مثل هذا الاختلاف هو عامل مهم كان يستحق النظر اليه من قبل الدكتور الجابري مع مئات العوامل الأخرى مما تزخر بها البيئة الجغرافية للعرب وربما يكون العقل العربي مدينًا لها بالكثير من الخصائص والتفاصيل ومن تلك العوامل الأخرى ظاهرة (الاستطارة) التي يمكن ملاحظتها بوضوح في البيئة الصحراوية الحاضنة للعقل العربي فاللون الأبيض يتكون من سبعة ألوان تسمى ألوان الطيف الشمسي وهناك، كما يخبرنا علم الفيزياء، أطوال موجية لكل لون فاذا مر هذا الطيف بأي وسط ناقل كالهواء مثلا فان اللون الذي طوله الموجي قصير يستطير عمودياً بينما تبقى الألوان الأخرى سائرة بخط مستقيم وهذا يفسر ظهور الشمس باللون الأحمر الأرجواني في آونتي الشروق والغروب، لأنها تكون أفقية بموازاتنا في الحالين فيستطير اللون الأزرق عموديا ولانرى الا الضوء الأحمر لأنه يسير بخط مستقيم تجاهنا.
منظر قرص الشمس الأحمر المتوهج، وهو آية من آيات الاعجاز الرباني، قد نجده نحن العرب منظرا طبيعياً أو اعتيادياً بحكم الألفة التي تصنع حاجزاً بيننا وبين الانبهار به كما يستحق. ولكن بالنسبة للقادم الينا الى الشرق من بلد غائم ومثلج نادراً ماتظهر فيه الشمس بكامل اهابها فان هذه الصورة الكونية الصافية ستكون مصدر انبهار واعجاب بالنسبة له، كذلك الأمر بالنسبة للنجوم في حلكةالليل الصحراوي الهادئ فصورتها تبعث على الخشية والخشوع لما في وضوحها للعيان وازدحامها الكثيف من رهبة وأثر عظيم في النفس. وفي مثل هذا الفضاء المفتوح ذي التميز الروحي العميق أنجبت هذه الصحراء الرسل والأنبياء وألهمت طبيعتها الزهاد والعلماء والمفكرين وضم أديمها صفوة الشعراء والفلاسفة وربما المجانين.
 هذه العوامل البيئية ومثلها كثير جدا مما يستحق الالتفات اليه لانجد له وقفة في فصول كتاب نقد العقل العربي حيث يفحص المفكر الجابري في صفحته المذكورة تلك بيئة الاعرابي من زاوية أخرى هي الاتصال والانفصال فيخلص الى أن الانفصال يطبع جل معطياتها (الطبيعة رملية والرمل حبات منفصلة مستقلة مثلها مثل الحصى والأحجار والطوب والنباتات المتناثرة والحيوانات التي تعيش منفصلة في عراء لافي غابات والانسان الذي يعيش في خيام منفصلة متنقلة حيث الأرض شاسعة والكثافة السكانية ضعيفة) أي أن العلاقات بمجملها هي علاقات انفصال مما يجعل تصور الانسان للمكان لاينفصل عن تصوره للشيء المتمكن فيه والزمان أيضا فقير بالتغير في الصحراء مما يجعله حسب الجابري مرتبطا بحدث واحد لفترة طويلة كأن يقول العرب زمن الرطب أو زمن الحر أو عام الفيل.
(زاوية الاتصال والانفصال) هذه لها أهميتها بالطبع في تشكيل نظرة العربي الى زمانه ومكانه الا أن العوامل الأخرى التي أثرناها في هذه الوقفة القصيرة لاتقل عنها من حيث الأهمية وقد شكلت برأينا قاعدة لايستهان بها من قواعد بنية العقل العربي وتكوينه.